لايقولها إلا بعد صبر يتجرع مرارته علقما.. لاتعلو هتافاته بها إلا بعدما تصبح أوجاعه عصية على الاحتمال.. وتصبح همومه خانقة كاتمة على الأنفاس.. عندما تضيق به سبل العيش وتفتقد حياته الآدمية وتمس كرامته حد الإمتهان.. عندما تصبح الغربة عن الوطن حياة، وتصبح الحياة فى الوطن غربة.. عندما يصبح الموت هو طوق النجاة الوحيد نحتضنه دون فزع أو خوف.. نلهث إليه حرقا أو شنقا أو قفزا من نافذة.. نقدم أرواحنا قرابين لكسر حاجز الصمت المخزي المهين.. كم من القرابين يتحتم علينا التضحية بها كى ترى بعضا من أحلامنا النور!! كم من الأرواح يفترض أن تزهق كى ترى أعيننا بريقا من أمل فى نهاية سردابها المعتم!! كم من الأجساد مقدر لها أن تعذب حتى تحرك صرختها عار الخنوع!! كم من المليارات يجب أن يخسرها الوطن حتى ينعم شعبه ببقايا من خيره المسلوب!! كم من العطايا يجب تقديمها كى تخرس أيادى المتربصين به خارج الحدود
كم من الصفقات يتحتم عقدها كى يغضوا الطرف عن الجرائم التى فاقت كل تصور وتخيل ومسموح! كم من الرؤوس يجب أن تنحنى كى تأمن عروشهم وكراسيهم شر التمرد والعصيان والجموح.
واقع مخزي يتراءى لشعوب عربية مقهورة يتراءى لنا بين حين وآخر كضربات سياط مؤلمة لانكاد نشفى من ألم إحداها حتى ينهال علينا آخر بقوة أكثر إيلاما وتمزيقا لما بقى فى نفوسنا من كبرياء.
توقفت عقولنا حد الشلل ونحن نتابع جسده العجوز..على مقعده المتحرك ظهر.. كان شبه مغيب بفعل الشيخوخة والمرض.. يمد يده المرتعشة بصعوبة شديدة ليحمل طرف علم بلاده يقبله من غير إهتمام ولاتركيز.. بدا عاجزا حتى عن مجرد تحمل جهد الظهور الروتينى البسيط لدقائق محدودة من المؤكد أنها كلفته الكثير من صحته.. فكيف لنا أن يصدق شعبه بقدرته على تحمل قيادة بلد كبير! وكيف يأمن على وطنه فى ظل حكم رئيس مسن قعيد!! بدا المشهد مستفزا..غريبا فجا بل ومهينا!! ولانعرف كيف راهن من يديرون الجزائر على صمت الشعب ونزوله وتمديد فترة رئاسة بوتفليقة لولاية خامسة!! هل راهنوا على إحكام قبضتهم على البلاد! أم على خنوع البسطاء!! أم على تجارب فاشلة حركت الشعوب المجاورة ومالبثت أن عادت شعوبها لنقطة البداية فضمنت يأس شعبها ويقينه بعبثية التمرد وإيثار الإستسلام لما يفرضونه عليه من سياسات ووجوه !! يبدو أن التاريخ يأبى ألا يمر دون أن تتكرر صفحاته حتى لايطويها النسيان! أو ربما يفعل ذلك ليصفع المتعالين بين الحين والآخر بقسوة ملقيا على رؤوسهم عبرة بعدما أوهمهم غرورهم وتسلطهم وجبروتهم بأن مايحدث بعيدا عن حدودهم من المستحيل أن يتكرر من شعوبهم .. متغافلين أن تطابق الأسباب حتما سيقود لنفس النتائج .
عز على الشعب الجزائرى أن يهان بحكم رئيس صورى.. فخرج رافضا التمديد مطالبا بإسقاط النظام ورحيل الرئيس.
خرج مفاجئا الجميع وربما مفاجئا نفسه فأجبر الجميع على الإنصات.. حتى إعلام بلاده الرسمى لم يستطع تجاهل حجم الغضب، وإن حاول كعادة أمثاله من جوقة النظام التحايل وإستخدام كلمات معينة تقزم بها حجم التمرد مثلما أطلقت على مظاهرات الغاضبين أنها مظاهرات ذات طابع سياسى تطالب بوتفليقة بالعدول عن الترشح لولاية جديدة!!
نفس السيناريو يتكرر، شباب غاضب ورئيس فقد صلاحيته وقدرته على الحكم.. إعلام منحاز للنظام.. مظاهرات وحشود.. صدام مع الأمن . قنابل مسيلة للدموع .وإعتقالات، تصاعد للأزمة.. تجاهل للمطالب.. رفع سقف المطالب.. محاولات للقمع ووأد الثورة، تنتهى بإسقاط النظام وربما لايسقط أو يسقط ويعود، لكن فى كل الأحوال يظل الحراك الشعبى دليلا على يقظة الشعوب وأنها مازالت على قيد الحياة وعندما تريد يستجيب القدر، حتى وإن عاندها بعضا من الوقت لن يمنعها ذلك من تكرار المحاولة بعدما تعلمت الدرس وأيقنت أنها لن تكسب ثورتها بالقاضية، لكنها تكسبها بالنقاط وبالجولات.
--------------------
بقلم: هالة فؤاد
من المشهد الأسبوعي
آ